Abstract:
تعتبر ظاهرة الغموض في الشعر من القضايا ذات الأبعاد المتعددة؛ وذلك لتعدد المحاور المتصلة بها.فظاهرة الغموض ظاهرة تاريخية عالمية، تلعب التحولات السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية-دوراً مهماً في ظهورها .فالعلاقات التي تنشأ بين ثقافات الأمم غالباً ما تؤدي إلي تغيُّرٍ في الأساليب الإبداعية الراسخة الأقدام؛ فتنشأ-نتيجة لذلك-أساليب إبداعية تحمل بين طياتها الجدة والغرابة.
وقد ظهرت قضية الغموض في الشعر العربي- لأول مرة – عندما انفتح المجتمع العربي علي ثقافات الأمم والشعوب؛ وبخاصة الثقافة اليونانية ذات المنحي الفلسفي الذي أثر في مجمل الفكر العربي، وكان الشعراء- في تلك الفترة – من أكثر الفئات التي تأثرت بالفلسفة والمنطق اليونانيين، فانعكس ذلك علي تجربتهم الشعرية التي أثارت جدلاً واسعاً حول مشروعيتها.وكان الغموض من أهم القضايا التي أثارها النقاد، فاعتبروا الشعر المحدث-وبخاصة شعر أبي تمام والمتنبي- مفسدة لكلام العرب،واتهموه بالتعقيد والغموض ؛ فقالوا لأبي تمام (لماذا تقول ما لا يُفهم؟)، وتساءلوا عن غلو المتنبي وغموضه وتعويصه.
ولكن مع ذلك الهجوم كانت هنالك مجموعة تري أن الغموض خاصية شعرية ناجمة عن طبيعة الشعر التي تختلف عن الكلام الخطابي العام، وكان عبد القاهر الجرجاني من أبرز النقاد القدماء الذين دافعوا عن الغموض الفني في الشعر، واعتبره ميزة جمالية ناجمة عن طريقة النظم التي يتوخاها الشاعر في نظمه، وكان إبراهيم الصابئ يقول: أفخر الشعر ما غمُض.
ومع مرور الزمن أنتشر الشعر المحدث في البلاد العربية؛ فتعّرف الناس علي أساليبه، وتحول النقد من الهجوم عليه إلي محاولة فهمه وتفسيره، فاكتشفوا فيه تميزاً اعتبروه من أخصب التجارب الشعرية في تاريخ الشعر العربي، وتحوّلت- نتيجة لذلك- مواقف النقّاد والقرّاء من الهجوم علي أبي تمّام والمتنبي إلي دفاع عن تجربتهما الشعرية وتمثُّلها والاستشهاد بها في كافة مواقف الحياة.
أما ظاهرة الغموض في الشعر العربي الحديث فقد برزت مع انفتاح المجتمع العربي الحديث على الحضارة الغربية، وتأثُّرِ الشعراء العرب –فى العصر الحديث- بمفاهيم الحداثة الغربية وأسسها، وتبنيهم لمقولاتها، وصياغة أشعارهم استنادا إلى تلك المقولات؛ الأمر الذى أدى إلي تغيُّرٍ في الشكل الشعري وفي مضمونه، وهو تغيُّر طال بنية النص الشعري: الإيقاع، الصورة، الرموز والإيحاء. كما كان لتوظيف الشعراء عناصر فنية ذات مراجع معرفية- لا يمكن فهم رؤية النص الشعري دون معرفة أبعادها-دورٌ بارزٌ في انعدام التواصل ما بين القرّاء ونصوص شعر الحداثة العربية؛ فالتناص (تداخل النصوص) يقتضى معرفة واسعة بالشعر وتاريخه، والتراث وتنوعه، والثقافات وتداخلها .... الخ. والقناع(تعبير الشاعر عن رؤيته من خلال صوت ضمير الغائب) تقضى معرفته معرفة واسعة ومتعمقة بالعناصر التي يتقنّع بها الشاعر؛ وبالشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للشاعر،ومعرفة أبعاد شخصية القناع المعبرة عن رؤية الشاعر في النص.
ومن جهة أخرى كان لإيغال الشعر العربي الحديث في التجريد –جرّاء تأثره بالحداثة الغربية-أثرٌ مباشرٌ في ظاهر الغموض؛ وذلك من خلال انكفائه علي الأسئلة الذاتية والوجودية التي تتقاطع مع أسئلة المجتمع العربي ذات الطبيعة الجماعية والمشكلات الحياتية اليومية. ونتيجة لذلك لم يجد الشعر العربي الحديث حظاً من الاهتمام بين أفراد المجتمع العربي الحديث وجماعاته. ومن هذه المفارقة التي حدثت ما بين أسئلة الشعر العربي الحديث وأسئلة المجتمع العربي – وجدت تهمة الغموض طريقها إلى نصوص شعر الحداثة العربية.
ومن جهة أخرى فإن الحكم على الشعر العربي الحديث يقتضي وجود مناهج نقد حديثة؛ وذلك لأن تجربتة تجربة جديدة في شكلها ومضمونها، يقتضي تحليلها استقراء نماذجها في إطار مجمل التحولات الاجتماعية التي حدثت للعلاقات بين أطراف العملية الإبداعية، وقد كان لظهور نظريات القراءة وموت المؤلف دورٌ بارزٌ في ظهور علاقة جديدة، هي علاقة القارئ بالنص. وقد نتجت عن هذا التحوّل مفاهيم نقدية جديدة، وتحوّل مفهوم القراءة من مفهوم دورها السلبي الذي يقف عند حدود اكتشاف مستودعات المؤلف في النص –إلى دور فاعل يسهم في عملية إنتاج الدلالة النصية. إلا أن هذا الدور الذي افترضه النقد الحديث ظلّ دوراً محدوداً؛ وذلك لعدم وجود تغيُّراتٍ بنيوية في وعي القرّاء توازي وعي شعراء الحداثة، وذلك لأن النقد العربي الحديث- ذو التوجّه العالمي المتأثر بالنقد الغربي- ظل بعيداً عن المؤسسات التعليمية التي تعني بتأهيل أفراد المجتمع في العالم العربي؛ لذا ظلت هذه المناهج –في كثير من البلاد العربية- محصورة في فئة محدودة هي فئة النخبة، كما ظلّت بعيدة –كما الشعر الحديث- عن المجتمع العربي وحركته. وظاهرة الغموض- من هذا المنطلق – هي ظاهرة أسلوبية أسهمت في وجودها مجموعة من الشروط الحضارية.وهي سمة شعرية وسمت تجربة شعرية دافعت عن نفسها بمبررات تركن إلي معرفة متعمقة بذاتها وعلاقاتها.
ولفهم هذه التجربة الشعرية الجديدة لا مناص من معرفة آليات قراءتها، ولعل القراءة التأويلية من أنسب المناهج التي تستطيع محاورة نصوص الحداثة العربية ذات القدرة العالية علي التخفّي والتمدّد الدلالي الّذي لا يعرف النهايات.