Abstract:
المَقام هو الأحوال الدَّاعية إلى إيراد الكلام على وجه مخصوص وكيفية مُعيَّنة مِن حيث إنَّه المَنـزلة التي حلَّ فيها ذلك الوجهُ مِن الكلام. وهذه الأحوال نتاجٌ لمؤثرات اجتماعيّة وثقافيّة ونفسيّة كثيرة. هو بعبارة أخرى مرجعُ الصِّيغ القوليَّة المسؤول عن انتظامها في السِّياق اللغويّ.
تهدف هذه الدِّراسة إلى البحث في تأثير المَقام بوصفه مناسبةً تُضفي على المعنى التلاؤم بين مكونات السِّياق اللغويّ؛ ولذلك اعتنتْ بالبحث في القيم والمؤثرات الثَّقافية التي تحفُّ بالنَّصِّ. لأنَّ تفاوتَ طبقات الكلام يرجع إلى تفاوت مقاماته، وهو ما عُبِّر عنه قديمًا بمراعاة حال المخاطبين وظروف الخطاب.
وتبنَّتْ الدِّراسةُ مقولتين: الأوُّلى: أنَّ العلاقة بين المَقام والمقال علاقة جدليَّة، فإذا كانت المعرفة بالمَقام جوهريَّة في فهم المقال فإنَّ المقال يهدي إلى المَقام. وهذه العلاقة الجدليَّة متجدِّدة بتجدد الممارسة اللغويَّة. أمّا المقولة الثانيّة فهي: أنَّ أيَّة محاولة لفهم المقال بعيدًا عن المَقام تبقى قاصرة.
لقد أكَّدتْ هذه الدراسة أنَّ المعاني المجرَّدة مِن التأثيرات الحافَّة بها تبقى محدودة شأنها شأن الألفاظ؛ ولكنَّها باعتبار تلك التأثيرات التي تتحكَّم في تشكيلها، في مقام التَّعبير عنها، تتجاوز الحدود فتتنامى في عوالم معقَّدة في نفْس الإنسان، المحكوم بمنظومة حضاريَّة ونوازع ذاتيّة تُغَلِّب لديه معنى دون آخر وأداةً دون أخرى، في موقف معينٍ مرهونٍ بمَقام المتلقِّي.
وكشفتْ الدِّراسةُ عن اختلاف تأثير السِّياق اللغويّ باختلاف مناسبته للمقام؛ فبمناسبة المقام يتحدد المعنى وتتضح مقاصد الكلام؛ لأنَّه يتحكَّم بهذا السِّياق، فترى الدَّلالة متغيّرةً بحسب مقتضياته. فبالمَقام تُستدعى العلاقات اللغويَّة في السِّياق اللغويّ للانتظام على نحوٍ معيَّنٍ؛ والحال كذلك في إيثار صوتٍ أو صيغةٍ صرفيَّةٍ أو مظهرٍ دَلاليٍّ ما على غيره.
وأثبتتْ الدِّارسة أنَّ بالإمكان استعادة المقام الأصيل الذي وردَ فيه المقال وإعادة بنائه مِن خلال الوصف التأريخي المتعقِّل بَعْدَ النَّظر النَّقديِّ في الروايات. وقد يُسهم ذلك في حسم بعض ما اختُلف فيه مِن الدَّلالات؛ فالمقامات المنقضية يمكن استعارتُها لمقالات حاضرة.
وجد الباحث أنَّ هناك مشكلاتٍ حقيقيَّةً تتعلق بالبنية المقاميّة للنَّصِّ القرآنيّ الشَّريف تحتاج إلى استعداد لإعادة النَّظر في بعض الموروث الروائيّ؛ لأنَّ الوقوف على (المَقام)؛ بوصفه منظومةً اجتماعيّةً تتشكل بموارد الثَّقافة كلِّها مِن الأحداث الماضية حتى المعتقدات الحاضرة وما بينهما مِن العادات والتَّقاليد والفلكلور والمواضعات العرفيَّة، التي تقلَّبتْ وتوالدت منذ أكثر مِن ألفٍ وأربعمائةِ سنة؛ يحتاج إلى تفحُّصٍ مستمرٍ واستعدادٍ للتحوُّل أو التَّراجع مع تقادم الزَّمن، طالما آمنا بأنَّ الخطاب في لغة القرآن مناسبٌ لكلِّ زمان.
واعتمد الدَّارس لإثبات تأثير المَقام في دَلالة النَّصِّ القرآنيّ الشَّريف المنهج التحليليَّ الوصفيّ باستعمال الأدوات اللغويّة والبلاغيّة. وقد ظهر أنَّ البحث المقاميّ يمكن أنْ يكون مَدخلًا دقيقًا لحصر الدَّلالة، ومِن ثمَّ الوصول إلى مقاصدها العميقة،كما أنَّه يُعِينُ على حسم ما يمكن تسميته بالتَّزاحم الدَّلالي بتبنِّي الدَّلالة الأنسب للمقام.