Abstract:
تتمتع الأغاني الشعبية بأهمية كبيرة لدى شعوب العالم وبخاصـة الشعوب صاحبة الحضارات القديمة ، فهي تمتلك من التراث ما تفتخر به ، وذلك لما له من إسهامات في إبداعاتها أو تطورها أو الحفاظ عليها ، وللدول العربية الحظ الأكبر في هذا المجال ، لما تمتلكه من حضارات ، وما تبعه من تراث عظيم جعل لها الصدارة في هذا المضمار .
وتعد ليبيا من الدول العربية التي لها حضارات قديمة ممتدة عبر التاريخ نضراً لموقعها في وسط الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط ، ووسط الساحل الشمالي لقارة أفريقيا وامتدادها جنوباً في أعماق الصحراء الكبرى ، وهذا له أثر كبير في تشكيل تاريخها الطويل ، إذ ساعد هذا الموقع أن تكون ليبيا على اتصال وثيق بكل ما أحاط بها من حضارات قديمة وجدت في عصور سبقت الإسلام وكان للغناء والموسيقى والأدب والشعر دور بارز في هذه الحضارات .
وبحكم موقع ليبيا الإِستراتيجي الهام والذي كانت فيه البلاد منذ القدم عرضة لغزوات متتاليـة من الإغريـق والرومان ، وفي التاريخ الحديث من الأتراك الإيطاليين والإنجليز واستمر هذا أحقاباً من الزمن ، كما كانت لليبيا اتصالات بغرض التجارة مع المصريين وشعوب المغرب العربي وسواحل أفريقيا والبحر المتوسط مما أدى ذلك إلى تأثرها بثقافات مختلفة .
والأغنية الشعبية مثلها مثل أي أغنية في أي مجتمع آخر تساير دورة حياة الإنسان ، وتصاحب أغلب نشاطات الفرد منذ الولادة وحتى الوفاة ، فهي ضرورة حياتية يمارسها الإنسان مُنذ طفولته المبكِّرة وأثناء لعبه ومرحه وفي أوقات السمر وفي ساعات الفرح والحزن ، فهي ترافقه أثناء العمل ، وتنظِّم وحداته الحركية وتعد مصدراً للترفيه في وقت الراحة .
فالأغنية الشعبية مؤثِّر في حياة أفراد المجتمع مُنذ القدم ، وأصبح الغناء يشكل أهمية كبرى في حياة الناس وذلك لارتباطه بالبيئة التي تبلورت من زمن بعيد .
ومن الجديـر بالذكـر أنَّ موقع ليبيا الجغرافي قد ساعـد في تكوين ألوان متنوعة من الغناء والموسيقى تبعاً لنوع المناسبة التي تؤدى فيها الأغاني .
إنَّ العودة إلى التراث الغنائي والاهتمام بدراسته عن طريق جمعه وتسجيله وتدوينه يعد مشكلةً علميةً تحتاج إلى بذل الوقت والجهد ، والعمل من قبل الباحثين والمتخصصين في هذا المجال ، وذلك لإيجاد الحلول المنطقية والعلمية ، وللإجابة على كل ما يتعلق بهذه المشكلة من أسئلة واستفسارات ، ولإثبات ما ينبثق عنها من فروض واحتمالات علمية وتاريخية .
من هذا المنطلق جاءت هذه الدراسة فهي تهدف إلى جمع وتدوين ودراسة تحليل الأغنية الشعبية في مدينة غدامس ، لأنَّ وظائفها في أواسط المجتمع الليبي بين العناصر المتعددة التي يتكوَّن بمُجملها الواقع الغنائي والموسيقي في ليبيا وحتى لا تتعرَّض للاندثار أو النسيان أو التحريف والتحوير، ومن هذا المنطلق كان لابد من القيام بمسح ميداني ، وذلك عن طريق الجمع والتدوين والدراسة والتحليل ومعرفة كل ما يتعلق بوظائفها الاجتماعية والثقافية ثم توثيقها .
وموضوع هذا البحث هو الأغنية الشعبية في مدينة غدامس حيث اعتمد الباحث على الدراسة المسحية للأغاني الشعبية التي تساير دور حياة الإنسان من مرحلة الميلاد وحتى الوفاة ، وما يتخلل مراحل حياته من مناسبات مختلفة وذلك بجمعها وتدوينها وتصنيفها ثم دراستها وتحليلها ، واختار الباحث عيِّنة منتقاة متمثلة في مجتمع الأصل بهدف تحديد أنواعها وخصائصها الفنية وتحديد الآلات الموسيقية والإيقاعية والأدوات المصاحبة للغناء الشعبي بمنطقة البحث .
ونظراً للمساحة الكبيرة التي تحتلها ليبيا فقد حدد الباحث دراسته الميدانية في مدينة غدامس بليبيا وذلك لما تتميز به هذه المدينة من عادات وتقاليد غير موجودة في باقي المدن الليبية وما بها من لغات مثل الهوس والتيفناغ ، ولهجات مثل البربرية ، وأن أغلب التراث الغنائي بمنطقة البحث يتغنى بالسَّلم الخماسي .
لقد جمع الباحث من الأغاني الشعبية في مدينة غدامس(109) أغنية تمثل في مجموعها عيِّنة البحث ، شملت تقريباً على جميـع أنواع الغناء الشعبي المصاحبة
لدورة حياة الإنسان المتمثلة في جميع المناسبات الاجتماعية والدينية .
ولاحظ الباحث خلال زياراته المتعددة إلى منطقة البحث أنَّ الأغاني الشعبية لازالت بالفعل وإلى حد كبير تساير الحياة الاجتمـاعية وتواكب مراحـل عمر الإنسان في تتابعها وتنوعـها مُنذ استقبال المولـود حتى الزواج وفي العمل والمناسبات الدينية .