Abstract:
يُعالج هذا البحث قضية باتت تقوض بنيان الأسرة المسلمة، وتؤرق سعادة كثير من البيوت، فتجعلها تعيش في نكدٍ دائم واضطراب مستمر مما يهدد الأولاد بالتشرد والضياع، ويقلق كيان المجتمع بأسره ألا وهي قضية الطلاق فما هي ؟ وما الآثار الشرعية والاقتصادية لها ؟ وأضرارها الأسرية والاجتماعية والتربوية ؟ وكيف الوقاية ؟ وما هو العلاج ؟
يحاول هذا البحث الإجابة على هذه الأسئلة، ويسعى لبيان أن الإسلام حوى من القواعد والتشريعات ما يتسم بالواقعية والفاعلية في معالجة بوادر الخلاف وعوامل الإثارة والاضطراب، فالأمن والسعادة سواء في نطاق الأسرة أو المجتمع لا يتحققان بمجرد البطش والإزعاج بل بتهذيب النفوس وتطهير الأخلاق وتصحيح المفاهيم والاستمساك بشرائع الإسلام والعمل بها في جميع مجالات الحياة .
بدأ هذا البحث ببيان حقيقة الطلاق من حيث تحديد المعنى اللغوي والشرعي له، وبيان تأصيله الشرعي، ثم أقسامه المتمثلة في الطلاق الرجعي، والطلاق البائن بينونة صغرى وكبرى مع بيان كل قسم بالنظر إلى الآثار الشرعية المترتبة عليه، ثم فَرَّق بين الفسخ والطلاق ورأي الفقهاء فيهما .
ولاشك بأن العلم بالأسباب والدراية بالأحكام الشرعية التفصيلية لكل سبب يوصلنا إلى النتيجة والنتيجة المطلوبة هنا هي الوقاية والعلاج من داء الطلاق، فبيَّن الفصل الأول أسباب انتشار الطلاق في المجتمعات العربية والإسلامية، وكان ذلك من خلال مصدرين الأول أسباب كلية حددها الفقهاء وتندرج تحتها صور فرعية متعددة تتجدد بتجدد الزمان والمكان، أُخذت من واقع المجتمع الإسلامي منذ العهد النبوي وما بعده، فذكر الفقهاء أسباب الخيار كالعيوب والإعسار وغير ذلك، والثاني أسباب تتمثل في الأحداث المعاصرة، فالواقع المعاصر للعالم الإسلامي زاخر بأسباب متنوعة للطلاق خصوصاً ما تشهده هذه المجتمعات من تغيير كبير في أنماط الحياة والأعراف والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والسلوك وطريقة التفكير، ولو دمجنا الأسباب القديمة بالمعاصرة لخرجنا بأسباب واقعية تتعلق بمقدمات الزواج كسوء الاختيار، وعدم الكفاءة، والإكراه في الزواج، وأسباب تتعلق بالمكانة الاجتماعية والعلمية والمادية، فالناس قديماً وحديثاً يختلفون في المستويات المادية والعلمية والمكانة الاجتماعية، إلى جانب اختلاف الطبائع والأهواء .
كما أن ضعف التوعية الدينية في الحقوق والواجبات الأسرية وما تتضمنه من صور مختلفة تعتبر سبباً مقنعاً من أسباب الطلاق فضعف الوازع الديني في الأسرة يؤسس لها الفشل والإيمان له أثرٌ فعال في ضبط السلوك فلا استقامة لأمر الدين والدنيا إلا بمعرفة الله تعالى والإيمان به . كما أن عدم القيام بالحقوق والواجبات من قبل الزوج أو الزوجة إما بسبب الجهل بالتوعية الدينية أو ضعف الوازع الديني والإعراض عن تطبيق ذلك وفقاً للمنهج الإسلامي يؤدي إلى الخصومة والنزاع وهذا أمر هام يدور عليه بقاء الزوجية دوماً .
ورغم أن الطلاق مر المذاق خاصة عند اشتداد الشقاق واستحالة الوفاق فقد تطرأ على الحياة والواقعية حالات تجعل من الطلاق ضرورة بل قد تجعله وسيلة للاستقرار العائلي، فإذا استحالت العِشرة ووقع الطلاق ترتب عليه آثار شرعية واقتصادية ملزمة، وآثار اجتماعية وتربوية مرغمة وخارجة عن إرادة الزوجين، فبيَّن الفصل الثاني من هذا البحث الآثار الشرعية التي فيها حق الله تبارك وتعالى كالعدة سببها وأنواعها وانقضاؤها، وكالمحرمات من النساء، ومن كن منهن حلالاً للنكاح بعد الطلاق، وأحكام التوارث في الطلاق الرجعي وبعده، كما أن الالتزام بالآداب الإسلامية للطلاق هي من آثاره الشرعية .
ومما لاشك فيه أن ظاهرة الطلاق تفرز آثاراً اجتماعية وتربوية سلبية تعكس بصدق خطورة الطلاق، وهذه الآثار تقع على المرأة المطلقة أولاً من اضطرابات نفسية وحصار اجتماعي وعوز مادي وسلوك انحرافي ثم تقع على الرجل ثانياً فقد يُصاب المطلق بالاكتئاب والإحباط والفشل ثم تقع على أولاد المطلقين من اضطراب في السلوك والتشرد وعدم وجود المأوى الآمن والبيت الهادئ والفشل في الدراسة، فالأطفال هم الذين يدفعون الضريبة الكبرى وفيهم تتجلى الآثار السلبية للطلاق بأوضح معانيها .
كما أن العامل الاقتصادي يلعب دوراً مهماً في استقرار وتماسك الأسرة بل والمجتمع بأسره، ومن آثار الطلاق تأمين الحقوق المالية للمطلقة لأنه به يجب المهر كما وتجب نفقة العدة والمتعة وأجرة الحضانة والرضاع، ومن هنا يترتب آثار اقتصادية على الطلاق تستحق للمطلقة وتقع على المطلق ويتأثر بها المجتمع والدولة كقلة الإنتاج والادخار وكثرة الإنفاق وانخفاض الأجور والبطالة .
إن المنهج الإسلامي في علاج مشكلة الطلاق ينبع من منطلق العمق الإنساني والتكريم الإلهي للزوجين باعتبارهما مستخلفان في الأرض، والإسلام لا ينظر إلى الطلاق على أساس أنه عمل محرم، كما أنه لا ينظر إليه على أنه عمل حلال ومباح بدون أية قيود أو شروط، ولذلك وضعت الشريعة الإسلامية منهجاً وقائياً وعلاجياً للمشاكل الأسرية لو التزم الناس في كل عصرٍ بأحكامها واتبعوا الهدي النبوي الشريف لبقيت الأسرة المسلمة متينة قوية تسودها المودة والرحمة والمحبة والسعادة والسكن .
وفي هذا البحث أبرز الفصل الثالث المنهج الإسلامي في الوقاية والعلاج للطلاق، فبيَّن الطريقة الإسلامية في علاج الطلاق داخل حدود الأسرة من خلال تعريف الزوجان بالمقاصد الشرعية للزواج والطريقة الإسلامية للسيطرة على الغضب وإخفاء مشاعر النفور والكره والمنهج الإسلامي المتدرج في علاج نشوز المرأة والرجل ثم المنهج الإسلامي في علاج الطلاق خارج حدود الأسرة والطريقة الصحيحة في تدخل الوالدين لحل الخلاف وبعث الحكمين وفي النهاية وعند استحالة العِشرة بين الزوجين ونفاذ كل محاولات الإصلاح والوصول إلى طريق مسدود وأن الحل هو في الفراق لابد من إتباع المنهج الإسلامي في الطلاق وهو منهج تربوي فريد ينطلق من قول الله تعالى : {وإن يتفرقا يُغن الله كلاً من سعته} سورة : النساء، آية : (130) .
وخلص البحث إلى جملة من النتائج والتوصيات وعلى رأسها أن الشريعة الإسلامية دين الله الخالد تصلح لكل زمان ومكان، وأن الفقه الإسلامي بحر زاخر وثروة عظيمة، وأن المجتمعات الإسلامية والعربية المعاصرة تشهد تفاقماً في قضية الطلاق وازدياد وتيرتها بشكلٍ كبير وظاهر وتختلف نسبته من بلدٍ إلى آخر تبعاً للظروف المحيطة بها .
ولأجل ذلك وضعت هذه الدراسة جملة من الاقتراحات للحد من هذه القضية أهمها التأكيد على دور الأسرة المسلمة وأهميتها وتعزيز مكانتها وحمايتها من كل محاولات التخريب والتفكك الهادفة للنيل منها وإضعاف دورها في تماسك المجتمع والعمل على تقوية الوازع الديني والتوعية والإرشاد والإصلاح الشرعي بين الأسر في المجتمعات العربية والإسلامية .